Wednesday, September 28, 2016

قراءة في رواية مومو ~ تأليف أندرو صبحى شفيق


توصل الانسان الى الكثير من العلوم و المعرفة في جميع مجالات الحياة , و إن كانت كل المعرفة التي عرفها الانسان منذ وجوده على الارض حتى الان لا تساو شيئا أمام أسرار الكون التي لم نعرف عنها شيئا بعد , فالمعروف قطرة واحدة في بحر الغير معلوم.
ولكن على كل حال لا توجد بشرية أخرى لنقيس عليها معرفتنا و حضارتنا , و برغم كل هذه الحضارة فلازلنا نعجز عن فك ألغاز الانسان نفسه.
أبدع الروائي الالماني في حياكة روايته و غاص في أعماق الانسان و خرج لنا برموز تخفي الكثير و كأنه عرف حقيقة خشى أن يجاهر بها علانية فصورها بشكل قصصي و أخفى بين طيات صفحاته رموزا نبقى مختلفين في تحديد معانيها.
"ولكن الزمن حياة و الحياة مقرها القلب."
مما لاشك فيه ان الكاتب في هذه الرواية يحاول ان يفك شفرة الزمن , الزمن ذلك اللغز العجيب.
من أين بدأ؟ و إلى أين ينتهي؟ أين يمضى الماضي؟ و في أي مكان يختبئ المستقبل؟
أسئلة متعددة تراودنا حين نتحدث عن لغز الزمن , حاول كاتبنا أن يجعلنا نفكر معه و مع مومو في حل هذا اللغز الغريب و ذلك من خلال القالب القصصي الذي صب فيه روايته برموزها المكنونة في أعماقها.
من خلال قراءتي الشمولية للرواية و من دراستي لخلفية الكاتب المكانية و الزمانية , اتضح لي ان ميخائيل انده تأثر بشدة بالنظريات العلمية  و الفيزيائية في وقته و من أهمها النظرية النسبية العامة و الخاصة للفيزيائي البرت اينشتاين , و يتضح ذلك حين لم يفصل كأسلافه الزمن عن بقية الموجودات و لكنه رأى بنظرة صوفية ارتباط الكون بكل عناصره بعضه ببعض بما في ذلك الزمن.
"الزمن يتدفق من القلب."
عندما أنهيت الرواية لمعت هذه الجملة في مخيلتي, الزمن يتدفق من القلب.
أراد ميخائيل انده أن يعلن هذا كسر من الأسرار التي كشف عنها حجاب روحه , الزمن ذلك اللغز الغريب الذي لطالما أراد الانسان تطويعه و تقييده و حسابه و قياسه , ولكنه ينساب من بين يديه كالمياه المتدفقة على راحتيه  ولا يبقى منها سوى اثارها التي تذكره انه كان هنا في لحظة ما.
ربط ميخائيل انده ايضا ما بين الخيال و الزمن , و أعتقد ان الخيال في قصته هو البطل الحقيقي و ليس الزمن حتى ان شخصية الفتاة الصغيرة مومو قد ترمز بشكل كبير للخيال.
"بناء الخيال و فرض الخيال."
حين كنت في الرابعة من عمري , كنت افضل الدمى التي بدون اي تكنولوجيا , دمى مصمتة , كنت أفضلها على أقرانها من الدمى التي تتكلم و تتحرك و تغني , و لم أكن أعرف لماذا؟
و لكني كنت أشعر أن الدمى المصمتة تأخذ من روحي تتشبع من خيالي فيبث في قلبها الحياة, حياة أخذتها مني, الخيال يعطي الحياة لمن لا حياة له, يدعو الغير موجود و كأنه موجود.
على عكس الدمى التي تتحدث و تغني و تضيء , كنت أشعر أن صانعها يفرض خياله يفرض فكره , يحجم و يقيد خيال الاف الاطفال و يحرمهم من حقهم في التخيل و الابداع.
"وطن بلا أحلام, هو وطن بلا مستقبل."
هذا ما يحدث أيضا في منظومات التعليم الفاشلة أنها تلقن الحقائق , لا ننكر أنها حقائق و لكنها تنسى حقيقة أهم من كل تلك الحقائق التي تلقنها , خيال الطفل , قدرته على التفكير و الابداع , علينا ان نعلمهم كيف يفكروا كيف يبدعوا كيف يستعملون الخيال كيف يصلوا للحقائق ذاتها عن طريق التفكير و الخيال.
هذا ما رآه ميخائيل انده و أراد أن يعلن عنه في روايته , المنظومات الرمادية التي تدير تقييد الحلم و الخيال , المنظومات التي تسرق المستقبل حين تسطو على احلام الاوطان و خيالها , تطورت منظومة الحرب على مر الزمن , من حرب عسكرية لحرب باردة لحرب تقييد الخيال و سرقة المستقبل.
"ملكوت الله داخلكم."
انها الاجابة التي ارادت مومو و اراد ميخائيل انده ان يخبر بها البناء صديق مومو في الرواية حين حدثها عن البنايات العالية و الشاهقة بفضل السادة الرماديين , هنا نحن ما بين وجهتين , صراع بين البناء الخارجي و بين بناء الانسان , و ليس صراع كما يظن البعض للوهلة الاولى عند قراءة الرواية بين البساطة و التحضر.
نعم كانت تعيش مومو حياة بسيطة و لكنها كانت قلب الخيال الذي يشع ليبعث في اناس عاديين افكارا ابداعيا لم تكن على بالهم , بوجودها يوجد الابداع و بغيابها يختفي , مومو الخيال البشري حين يتحرر من قيوده و من المفروضات ليحطم كل جدران السجن التي حولنا و نحلق بها في السماء , و السادة الرماديين برغم كل تقدمهم و حضارتهم فقد كانوا بلا حياة.
و هنا الحكمة, فغاية الحياة هي أن تهب الحياة.
"منظمة السادة الرماديين."
لم توجد صدفة , حتما أراد ميخائيل انده ان يشير الى شيء ما من خلال هذا الرمز , و ككاتب مسرحي لا أعتقد أن ميخائيل انده أراد فقط أن يناقش مشكلة العصر "ليس لدي وقت" , الأمر يتعلق بقضية و صراع أكبر , منظومة تعرف لها هدف واضح و أخر مستتر , هدف واضح في سرقة الأحلام و الزمن بخداع الناس و هذا ما أوضحه علانية أحد عملاء المنظومة  , و هدف أخر مستتر لا يعلمه أحد حتى السادة الرماديين أنفسهم يبدو أن هذا الهدف قابع في قلب المنظومة , و لكن كاتبنا عرف عنه شيئا , يبدو و أنه قد تسلل لقلب المنظومة و خرج لنا بهذا السر الذي أخفاه بين طيات كلماته محذرا منه أجيالا بأكملها ولدت بسلاح لا يقهر تريد هذه المنظومة نزعه , الخيال , ومما لاشك فيه أن الكاتب أراد أن يوصل بشكل أو بأخر قوة و سلطة السادة الرماديين في العالم المنظور حين حبك هذا في الصراع ما بين حضارة و بناء السادة الرماديين و سلطانهم في العالم المادي و خيال مومو.
"لغز الأستاذ أورا."
حين تعرفت على الأستاذ أورا للمرة الأولى شيئا ما بقلبي أخبرني أنه الموت , و لكن الغريب الصورة العجيبة التي صور بيها ميخائيل انده الموت , تلك الرحلة في نسيج الزمكان التي بدأت من المرآة و حين تنتهي تعود اليها من حيث اتيت.
أكثر ما لفت نظري في هذا المشهد بلغة المسرح كما يحب كاتبنا , القضية الأولى للإنسان الحرية و الجبرية , لا يختار مكانه و زمانه و لكنه يختار كيف يقضي كلا منهما , فلو رجع الانسان للمرآة مرة أخرى سيكون الزمكان أجمل هدية يمكن أن يأخذها , رحلة عجيبة و يبقى هناك لغز حول مغزاها و غايتها و كأن كل الحياة بزمانها و مكانها و أشخاصها لوحة تتشكل و تتمخض لتخرج لنا عملا فنيا فائق الروعة عملا نستطيع أن نتابعه و نحن داخل الرواية ربما لو ارتدينا نظارة الأستاذ أورا خارج المكان و الزمان سنرى روعة هذا العمل الفني , ولكن من موقعنا هذا في قلب الرواية أعتقد أننا لن نستطيع أن نرى هذا و لكن يمكننا أن نشعر بما يحدث من تشكيل في هذه اللوحة الفنية حين ينطبع على أرواحنا , فالإنسان بذاته كون مصغر , يمكنك أن تعرف الكون بأسره أن عرفت ذاتك , و ستعرف ذاتك حين تعرف كيف تسمع جيدا كما تفعل مومو.
عرف الكاتب سرا , النظام الثلاثي البنائي لكل الموجودات , من الواضح ان العديد من الموجودات التي نعرفها حتى الان مبنية على نظام ثلاثي و أحد الامثلة التي كتب عنها ميخائيل انده هو الزمن بماضيه و حاضره و مستقبله.
قرأت إحدى الحقائق العلمية التابعة للنظرية النسبية لألبرت اينشتين , ان سار الانسان بسرعة الضوء يتوقف الزمن , و ان اراد ان يسير بهذه السرعة لابد ان تكون الكتلة صفر , و يبقى اللغز كيف نبقي شيئا حيا كتلته سفر لنوقف الزمن , هنا تذكرت الأستاذ أورا حين أخبر مومو عندما تنهي رحلتها و تأخذ طريق العودة للمرآة أعتقد أن الكتلة حينها ستكون صفر و السرعة ستتخطى سرعة الضوء.
ختاما..,
تصنف رواية مومو كأدب طفل و لكن دعني أخبرك شيئا هاما ان أخطر انواع الادب هو ادب الطفل , ليس فقط لأنه ينشئ و يربي أجيالا على أفكاره التي بثها في روايته و لكن ادب الطفل هو نوع من الفن يسمح للكاتب بتشكيل اكبر قدر من الرموز و الافكار و الاسرار في قالب طفولي شيق , و لعلك لم تنس رواية مزرعة الحيوان للكاتب جورج أورويل.
في قلب كل منا مومو تستطيع ان تكسر الحواجز و القيود و حول كل منا في اي مكان عملاء من السادة الرماديين , المعركة شرسة و لكننا ولدنا لنجد هذا الصراع و لا يوجد هناك ارض محايدة إما هذا أو ذاك.
علموا أولادكم كيف يفكرون, كيف يحلمون, كيف يتوصلوا للحقائق بأنفسهم و ليس بالتلقين, علموا أبناءكم و أنفسكم أيضا أن الزمن هو أعظم هبة يأخذها الانسان , علموا أبناءكم و أنفسكم أنه في الصمت نسمع صوت الطبيعة و نطلق عنان الخيال , علموهم كيف يكونوا جزءا فنيا ابداعيا في لوحة الوجود اللانهائية , تلك اللوحة التي ستتضح بأكملها حين نعود جميعا من حيث أتينا , إلى المرآة..

                سلاما على روحك أيها الفنان المبدع ميخائيل انده..,

No comments:

Post a Comment