Wednesday, September 28, 2016

حكاية لا يعرفها الزمن ~ تأليف ياسمين حسن ثابت


"يمكنك أن تلج من بوابة الشهرة بالأدب عن طريق الكتابة عن السجون أو الجنون بل حتى الإباحية!إلا ذلك الأدب الموجه للطفل لا يسامح فيه النقاد أبدًا كما حدث مع روديارد كبلنج*، كنت اسأل نفسي دائمًا لماذا هذا الحط من قدر كل ما يخص الكتابة للطفل؟!"
ميخائيل إنده
في عام 1997 وصلت إلينا أخيرًا ترجمة عربية للتحفة الفنية التي تحمل اسمًا سهل النطق للأطفال والكبار "مومو"، ترجمتها المؤسسة العربية للدرسات والنشر، في إطار المشروع القومي للترجمة، بعد ربع قرن من خروج هذه الرواية للنور، من قلم وقلب ميخائيل إنده الألماني ابن الفنان السريالي إدجار إنده، الذي ولد في عشرينات القرن الماضي، وعاصر الحرب العالمية الثانية مراهقًا.
لا يمكن أن نفصل رواية مومو عن عقلية إنده وأيدولوجياته؛ فقد نمى عقله في بيوت الرسامين والنحاتين والأدباء، في عصر لم تكن التكنولوجيا قد أحكمت قبضتها عليه بعد. دراسته للتمثيل وعمله بالنقد السينمائي جعلت مساره السردي يأخذ شكلًا مرئيًا لا يرتبط بزمان ما يعيش فيه القارئ أو حتى تصنيف معين لعمره!
قرأتُ مومو وأنا أقترب من الثلاثينات، ومع هذا لم أشعر قط أنها موجهة إلى عقلي المراهق، أو الطفل الذي يسكنني. لم أشعر أنها اسطورة أو حكاية خيالية. لم أشعر أن المستقبل-بأي أداة يمكن أن يجلبها-يمكن أن يهزم رواية مثلها ويجعلها غير مناسبة له؛ فهي لا تناقش فكرة أخلاقية للأطفال جار عليها الزمن. احتفظت بنسخة ورقية في مكتبتي منها لنفسي ولأطفالي على أمل ان يرثوها مني ويقرأوها لأبناءهم وأبناء ابناءهم.
بغلافها المائل للون البرتقالي والرسوم بين الصفحات-التي تتضفر مع خيال القارئ ولا توجهه-أدركتُ أنني أمام كتاب متميز سيبقى على قائمة ما أرشحه لغيري وأنا مطمئنة البال.
لم تتوقف مومو عند حدود الورق، بل تجاوزتها إلى أفلام سنيمائية عديدة باللغة الألمانية والإنجليزية، وأفلام الكرتون. ولأن ميخائيل انتقل إلى إيطاليا في أوائل السبعينات فقد استطاع أن يوصل حكايته إلى الأوبرا كذلك؛ فها هي مومو لا تعرف زمانًا ولا تُسجن في نوع واحد من الفن، بل انتقلت من الحروف إلى الرسوم إلى الشاشة والشعر والغناء، وحتى حين تمت ترجمتها لم تتوقف عند لغة او اثنتين بل وصلت إلى ما يزيل عن أربعين لسانًا للبشر!
لو أنك قرأت لإنده بقية أعماله لأدركتَ أنه يمكن أن نختصر خوفه في ثلاث نقاط (المال-التكنولوجيا-الشكل الجديد للحضارة) باعتبار أن هؤلاء الأعداء الثلاثة هم ما يحاربون براءة الطفل ويجعلونه يخرج للدنيا كبالغ نمطي لا مشاعر فيه ولا أحلام تميزه. وقد حارب إنده هؤلاء في روايته مومو بكافة الاشكال والرمزيات.
انسان يعطي نفسه اسمًا أليس هذا حلم الجميع؟
مومو، التي أطلقت على نفسها هذا الاسم، والتي خرجت من مسرح قديم منسيِّ، بشعرها المنكوش، وملابسها البالية، كتمجيد ولمسة حانية للفقراء وتحقير من شأن المال الذي يغلف أجسادنا بملابس باهظة قد لا تؤدي الغرض منها.بمعطفها الذكوري الذي يلف جسدها الصغير يدل على أنه كان لها أب حنون لا تذكره، والرقع المختلفة التي تشكل ملابسها تؤرخ الأيام والأحداث المختلفة التي عانتها بانتقالها من ملجأ لآخر. يعزز هنا إنده الصورة السوداوية التي نحملها لشكل الملاجئ لإعلاء قيمة نشأة الطفل بشكل طبيعي، يحاول أيضًا أن يخرج لنا شخصية غير تقليدية بالنسبة لنا، وقد ولدنا وكبرنا في هذا العصر الذي وصل لذروة الحضارة، في حين أنه يصورها كرمز للبداية وأصل الانسان قبل أن تشوهه كل المستجدات التي تسيطر عليه وعلى شكل حياته؛ فهي لا تخضع لما في ذهننا من تصور، من حيث شكلها أو تصوير الطفل البطل في الكتب التي قرأناها. لم تكن مومو جميلة ولا غنية ولا صاحبة خيال استثنائي ولا حتى تملك ناصية الكلمات. نقطة قوتها في بساطتها وعدم خضوعها، لا من حيث تصويرها شكلًا أو حتى ثيابها أو طريقة تعاملها معنا كقرَّاء وهي بطلة الكتاب، أو في تصرفاتها مع بقية الشخصيات. ولأن الكاتب مؤمن- كما ذكر بين سطور الرواية- أن لا أحد يمكنه أن يجزم بكون الحكايات حقيقية أو خيالية، خصوصًا تلك التي حدثت في الماضي قبل آلاف؛ فهو لم ينكر أن مومو ربما تكون حكاية حقيقية- كما ذكر في نهاية كتابه- أنه سمعها على لسان شخص شاركه إحدى حجرات القطار، بل إنه حتى لم يثبت إن كان العجوز قد حكاها له في الماضي أم في المستقبل، وجعلنا نتحيَّر حتى في وجود العجوز ذاته؛ فقد اختفى بشكل غامض بعد أن انتهي من سرد حكاية مومو لإنده، ولأن الكتاب يجرد الأحداث والشخصيات والقارئ من الزمان؛ فهو يجرد خروجها أو عمرها منه أيضًا!
 فنحن لا نعرف عن مومو-منذ ظهورها في السطور الأولى للرواية-كم عمرها أو متى ولدت. فقط نعلم أنها طفلة، وربما شعرنا أنها كبيرة كفاية في أحداث أخرى، بل ربما تفوق بعقلها جميع قراءها!
يقسم إنده الكتاب لثلاثة أقسام في إحدى وعشرين فصلًا. القسم الأول خمسة فصول، ثم الثاني سبعة فصول، وأخيرًا الثالث-وهو الأكبر حجمًا والأكثر تسارعًا في الأحداث -تسعة فصول. في القسم الأول تجد الرقة تلازم كلمات إنده (حين صور الأرض تتنفس وهي نائمة) يفرش لنا ملامح شخصيات الكتاب يعرفنا عليهم واحدًا تلو الآخر، بدخول متميز لكل شخصية في نسيج العمل، ومن خلال تفاعل الشخصيات مع مومو نستطيع أن نرسم محاور رئيسية في شخصية مومو؛ فهي-بدون شك-نقطة تلاقي لهم جميعًا، كما أنها-مهما اختلفوا- فهي كانت الشيء المشترك بينهم؛ بسبب قدرتها على كسب قلوبهم.
استطاع إنده أن يرسم في كتابه-الذي من المفترض أنه يخاطب الأطفال-شخصيات حية بكل عيوبها الإنسانية، بل وجعلنا نحب تلك العيوب، وكذلك بيَّن صفات الشخصية الحسنة التي يمكن أن نخرج منها مميزات نتمنى لو أنها كانت فينا، كما فعل في شخصية جيجي-ملك الكلمات-الذي يمزج الحق بالكذب ويختلق الحكايات ويتمنى أن يكون مشهورًا ولا يسمح لأحد بمعارضته! وكذلك العجوز الكناس بيبو الذي لم يحقق شيئًا في حياته، حيث يضع لك إنده الميزة في قلب العيب في شخصية بيبو حيث يصوره كعجوز خرف ما أن يُوجَّه إليه سؤال حتى يصمت ويجيب بعد ساعات أو ربما أيام! لكنه يجعلك تدرك أن الرد ليس هو الهدف بطبيعة الحال، لأنك لو أجبتَ بسرعة لما استطعت أن تعطي الموضوع حق قدره، وربما لم يكن محدثك يحتاج ردك أو نصحك؛ فالجميع يدرك بطبيعة الحال المشاكل والحلول وربما كان تسرعك في الاجابة هو ما يجعل الصمت أبلغ في حضور مثل تلك الأسئلة. تساءلتُ وأنا اقابل بيبو في كل مشهد: ماذا لو أنى فعلت مثله وانتظرت حتى أُعطي ما يكفي من التفكير لما سأقوله قبل أن أقوله؟ لربما وفرت على نفسي الكثير من الاستهلاك والكلمات في غير موضعها.
يمزج إنده مومو وجيجي وبوبو والأطفال ونينو وحانته في بداية الكتاب ببعض القِيم مع سرد حكايات أسطورية، من خلال لعب الأطفال معًا، وهو أمر يجبر القارئ على الإخلاص للكتاب وعدم تركه قبل إنهائه. تمجد تلك الأساطير-المضفرة في نسيج الرواية-أهمية إدراك أخطاء الحياة العصرية والتحول لطرق المعيشة القديمة (مثل اسطورة ربان السفينة والسكان الأصليين للجزيرة)، كما أشار للطمع بطريقة ساحرة جدًا في حكاية الأميرة والسمكة الذهبية التي اهتمت بتغذيتها لتتحول إلى ذهب في النهاية أكثر من اهتمامها بنفسها وأحلامها؛ فغرقت بجوارها! وأخيرًا اسطورة المرآة السحرية التي تصف المعنى الحقيقي للحب كما ترمز أن الخلود لا يمكن بلوغه في الدنيا إلا حين تمسك يدك بيد شريكك وتنظران معًا إلى المستقبل!
يربط إنده في هذا الجزء بين الطفل والبالغ في أهمية الاستماع؛ فهي علاقة مشتركة ومتبادلة بين طرفين ربما كانا -ظاهريًا-غير متكافئين لكن احتياجهما للاستماع يكاد يكون متساويًا؛ فهي الموهبة التي تميز مومو والتي جعلت قول (ليتك ذهبت إلى مومو) من الأقوال المأثورة في تلك المدينة بعد مجيء مومو لها بفترة قصيرة! وهذا أول ما لفت انتباهي لرواية مومو؛ فقد سمعت عنها عن طريق مسلسل كوري كنت أتابعه، حيث تقع البطلة في حب مديرها في العمل الذي يحمل عقدة ذنب قتله لأخيه وزوجته، ولأنه يهتم برعاية ابنة أخيه التي لم تعد قادرة على الكلام بسبب خلل نفسي نتج عن حادثة موت والديها.
استطاعت بطلة المسلسل أن تبني علاقة طيبة بهذه الصغيرة عن طريق سرد حكاية مومو لها، وفي مشهد آخر في المسلسل وجدت البطل يشتري كتاب مومو سرًا، ويقرأه بنفسه.
حُفر اسم مومو في ذاكرتي هو وغلاف الكتاب المتميز، وكانت مفاجأة مذهلة بالنسبة لي أن وجدته أمامي في إحدى المكتبات بنفس الغلاف مع اسم مومو بالعربية؛ فقد خطر في ذهني أنها مجرد حكاية من اختلاق مخرج المسلسل فلم أكن أعرف أن كتاب مومو له وجود حقيقي!
 لم أتردد لحظة واحدة، واقتنيتُ الكتاب؛ لأعرف تلك الفتاة التي تجيد الاستماع.
يستخدم إنده العطاء في الدمج بين مفهومي الاستماع والوقت، فلو أنك قسمت وقتك بين نفسك وبين فهم الآخرين والاستماع إليهم لاستطعت أن تتواصل بشكل أفضل وأكثر حميمية معهم، ولكسبت قلوبهم وكسبت السعادة في آن واحد.
 وربما كان هذا أفضل كثيرًا في الحياة البسيطة البعيدة عن الرفاهية التي تعطي شكلا واهمًا للسعادة، وكان أفضل للطرف الآخر كذلك من اغراقه بالهدايا والخدمات، فربما أفضل ما يمكنك اعطاءه لغيرك ليس مالًا ولا حكمة ولا تملقًا، بل فقط استماع صادق من قلب مهتم.
يخفف الاستماع من سوء التفاهم وتفاقم المشكلات، ويسهل التواصل بين البشر وبين الإنسان ونفسه. ويحول أيضًا بين التمييز بين بشري وآخر؛ فمهما اختلفنا عن بعضنا البعض من حيث المستويات الاجتماعية والتعليمية والعمرية والأخلاقية، وحتى مع اختلاف أحلامنا، يبقى حلم أن نكون مسموعين باهتمام حتى نهاية حديثنا هو الرغبة البشرية الأولى الدفينة لنا من وجودنا معًا انسانيًا.
 بل واستطاعت مومو أن تتجاوز البشر لتستمع للأغنية الكونية وأصوات الحيوانات والريح وكل ما ينبض بالحياة. استطاعت أن تدرك أن للحياة صوتًا!
قدم لنا إنده في الجزء الأول السادة الرماديين على استحياء، بوصف رمزي لملابسهم المصنوعة من خيوط العنكبوت، ووجوههم التي تبدو كرماد النار، السيارات الباهظة، القبعات والسيجار، كأيقونات لما يكره إنده من الأدوات الوهمية التي فرضها الإنسان على ملامح السعادة.
 وأكد أنه بقدرتك على الاستماع قد تستطيع أن ترى ما لا يستطيع ملاحظته غيرك؛ فمومو وحدها أحست بوجودهم على الرغم من أنهم عاشوا بين أهل المدينة لفترة لا بأس بها.
 لينقلك إنده في الجزء الثاني من الكتاب للتعرف بشكل أكبر على السادة الرماديين، والإجابة على تساؤلات القارئ بخصوصهم وهنا تتجلى حبكة الرواية.
"الوقت هو الحياة، والحياة تسكن القلب" كما ذكر إنده في سطور الرواية ليوصل للقارئ ما يطمح إليه السادة الرماديين بسرقة الوقت عن طريق زعمهم لوجود بنك لتوفيره!
 هناك يناقش إنده مسألة في غاية الخطورة: من يستطيع منا أن يحكم على أن هذا الوقت ضاع أو أنه كان ذات فائدة؟ وما هي طبيعة الفائدة التي يحتاجها كل واحدٍ منا؛ فحتى النوم صار مضيعة للوقت! بل حتى الوقت المخصص للطعام، الحيوانات، الأصدقاء، والبشر! اصبح يهتم فقط بنفسه وبمصلحته، أن يفعل شيء ذات فائدة مثل ممارسة عمل قد يعود عليه بالمال! أم أن يفعل شئ يحبه دون عجلة بل يستمتع بما يفعل هو تعريف الوقت الذي لم يضع. إذن فمسألة المتعة هنا تعطي للوقت قيمته وليس ما يعود به الوقت على الانسان، ولأننا لا نختلف عن أصدقاء مومو الذين تم خداعهم عن طريق السادة الرماديين حيث ما عاد عند الكبار وقت لقضائه مع الصغار!
وهنا يربط إنده بين رمزية الوقت في الرواية، وبين سيطرة جمع المال على مفهوم الوقت في حياة كل منا، وهو الذي يقتل روح الإنسانية؛ فما يحدد ماهية أحدنا هو في الحاضر ما يحمل من مال في جيوبه، سعي الإنسان لتملك العديد من الممتلكات يسبق الاستمتاع بها، فهنا يريد إنده بكل السبل أن يحارب جشع وقبح الرأسمالية في عالمه الرومانسي الحالم عن طريق فضح سبل تسلل فكرة الإدخار بشكل عام لكل أبطال الرواية بلا استثناء؛ مما يزيد من نسبة التوتر والعصبية والعبوس ويقلل من الإبداع ويحول تصميم بيوت المدينة بما يعرف بشكل متشابه يلغي سمة التفرد والإبداع لمحاكاة التحضر والموضة هنا بشكل واضح يمكننا أن نضع أيدينا على رفض الكاتب للمعمار الحديث وغياب التميز فيه.
 ادخار شئ غير ملموس مثل الوقت لأوقات أخرى، قد نحتاجه فيها، ولكن ما ينقضي قد يكون كل ما لدينا وكل ما نملك؛ فلن تنصلح مشاكل حياتنا قبل التركيز على إيجاد حل لتفاعل المال مع الوقت في حياتنا.
تقابل مومو في هذا الجزء أفضل شخصيات الرواية من وجهة نظري وهي السلحفاة كاسيوبية التي يكون حوارها عبارة عن حروف مضيئة تتشكل على ظهرها، والتي ستأخذها إلى بيت اللامكان في زمن اللازمان للقاء ساعتيوس. يُزين إنده هذا الجزء بتصوير حلم قديم لكل طفل منا وهو الدمية المتكلمة التي تغنينا عن صحبة الجميع وتعوضنا بتدليلها عن كل ما نحتاجه عن طريق شخصية الدمية بيبيجيرل التي اختلقها السادة الرماديون ليبعدوا مومو عن طريقهم بصب اهتمامها ووقتها كله لها.
 يصور لنا أننا ما عدنا أصحاب تلك الألعاب بل صارت الدمى هي من تلعب بنا وتتحكم في أفكارنا ووقتنا وتختزل طموحاتنا في شراء مستلزماتها؛ فلا يوجد أي شئ يمكننا صنعه بأيدينا يستطيع عن يعوضنا عن صحبة بشر غيرنا، أو يبادلنا الحب كما يبادلنا أصدقاءنا. كان همِّ الكاتب أن يشير إلى نوع الألعاب الذي يُعطى للأطفال؛ فهو غير مناسب لسنهم، حيث هدف وجود هذه الألعاب ليس متعة الطفل وإنما ليشغله عن الكبار!
ولأن مومو لها قدرة ساحرة على سحب الكلام فلقد ذلَّ لسان أحد السادة الرماديين بإفشائه سرهم لها عن طريق محاولة فاشلة لإبعادها عن الاهتمام بما يفعلونه في أصدقائها، ولأنه لا يمكن صيد لصوص الوقت إلا بالوقت فلا يمكن للشرطة الإمساك بهذا النوع من اللصوص لأن سرقتهم غير متعارف عليها!
 يشير الكاتب-بشكل صارخ-إلى نوع مختلف من الإجرام، نوع غير ملموس، لكنه أشد عمقًا في تأثيره من أي جريمة ملموسة، حيث تكمن قوة السادة الرماديين في عدم شعور الناس بوجودهم، وهنا يرفع إنده ورقة الوعي عاليًا؛ فهذا الأخير هو السلاح الاساسي لمعرفة مختلف أنواع السرقات التي تنتهك أرواحنا.
"لو يعرف الناس فعلًا ما هو الموت فلن يعودوا يخافونه وعندما لا يعودون يخافون منه فعلا فلن يستطيع أحد بعد ذلك أن يسرق منهم الحياة"
لقاء مومو بساعتيوس ووصف هذا الزقاق الذي تتقدم فيه مومو وسلحفاتها بالرجوع للوراء أثبت قدرة خلابة لرسم الخيال للكاتب إنده وصفه لشكل بيت اللامكان، وطبيعة حكمة ساعتيوس الذي يخبر مومو أن تستمع لقلبها فهو وهي الآن فيه حين يقول إنده على لسانه: "الأطفال هم المستقبل" لهذا يخاف السادة الرماديون منهم؛ لأنهم يحملون أسلحة من البراءة والوعي تجعل مهمة السيطرة عليهم أصعب بالنسبة للرماديين من البالغين.
يختتم إنده الجزء الثاني بنوم مومو حيث يريد ساعتيوس أن يحميها منهم ويخبئها بجعلها تنام ما يعادل سنة ويوم؛ لترجع لعالمها في الجزء الثالث من الكتاب وتجد أنه ما عاد له وجود!
أصدقاؤها جميعًا تغيروا، ولم يعد أحد يملك وقتًا ليتحدث مع مومو. يشغلون الأطفال بألعاب فارغة المتعة، وحتى حانة نينو وزوجته البدينة تحولت إلى مطعم لتحضير الوجبات السريعة، الذي يفرغ الطعام من طعمه ومتعة الجلوس والاستمتاع به إلى مجرد شئ يملأ المعدة ليس أكثر. حتى جيجي الذي حقق كل أحلامه-بأن صار مشغولًا يركب سيارة فارهة-يقول لها:
"حصلت على الكثير من الطعام وشعرت بالشبع حتى مللته"
تصل ذروة الأحداث إلى قمتها في محاولة مومو بالتعاون مع ساعتيوس وكاسيوبية القضاء على السادة الرماديين بإيقاف الوقت، والقضاء على مخزونهم، وصوَّر هنا الكاتب جشعهم بقتلهم بعضهم البعض ليصير المخزون كافيًا لمن بقي. وبموت آخر السادة الرماديين استطاعت مومو أن تعيد كل الوقت المسروق لأصحابه؛ فلم يعدوا بحاجة لقضاءه كله في العمل، وصار هناك وقت لكل شيء؛ فابتعد العبوس عن الوجوه شيئًا فشيئًا، وعاد التوازن للحياة في المدينة.
"الناس يظنون أن هذا هو حال المال ولا يمكن أن يتغير وأنا أظن أن هذا خطأ. نحن صنعناها لذا يمكننا إنهاء تأثيرها وتغييره"
قالها إنده قبل أن يرقد في نهاية القرن الماضي في مثواه حيث نحت على قبره شكل كتاب مفتوح وتماثيل لبعض شخصيات كتبه حتى كاسيوبية كانت هناك تبكي على قبره وعلى ظهرها لمعت كلمة (النهاية).

*روديارد كبلنج  صاحب كتاب الأدغال وعدة كتب مغامرات شهيرة في القرن التاسع عشر.

مصادر:
أعلام ومشاهير الأدب الألماني المجلد الثالث ترجمة حسن عمران
الفيلم الوثائقي:   https://www.youtube.com/watch?v=6E8he7kLkRM

No comments:

Post a Comment